عن كتاب محمد مظلوم : مراثي الطائفية.. وأوهام النخب الطائفية

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
15/05/2016 06:00 AM
GMT



تثير الاشكاليات الطائفية- اليوم- أسئلة فاجعة، ومواقف تضع الكثير من مفاهيمنا في نوبة عاصفة من الجدل والخلاف، مثلما ترهن وعينا الثقافي الى تصورات غامضة وملتبسة يمتزج فيها التاريخي مع السردي والشعبوي مع المثيولوجي، فوسط ماتتركه هذه الاشكاليات من صراعات وأزمات يأخذ سياق التداول المفاهيمي بعدا أخطر رعبا، ويتلبّس الخطاب الثقافي بأقنعة الطوطم، إذ لايبدو (التاريخ) آمنا في متحفه، وفي مدوناته، وحتى في لاوعيه الجمعي، والعقل يجد مرجعياته ومصطلحاته ومفاهيمه أمام حرجٍ تفرضه الكثير من القوى النقلية، تلك الماكثة عند عتبات رجراجة، والتي تتوزع بين مثاليات القياس وفقه الجماعة، وبين إشكاليات التأويل والقراءة، مثلما تجد الهوية نفسها أمام فخاخ كثيرة، تتوزعها أوهام وثنائيات وتقاطعات تشوبها مظاهر القوة والضعف، الغياب والحضور، المجاهرة والتقية، الحاكمية والتبعية..
كتاب الباحث والشاعر محمد مظلوم (الطائفة والنخبة الطائفية- ولاء الجماعات في صراع الأمم) الصادر عن دار الجمل/ 2016 يتقصى سرائر الاشكالية الطائفية من خلال فك التباستها التاريخية، ومقاربة إرثها في صراع الجماعات، وفي التداول الاسلامي….
المكاشفة العلمية في هذا المجال تفترض وعيا، ومنهجا، وبقدر ما سعى الكاتب مظلوم الى تلمس الكثير من التعقيدات التاريخية والسردية التي تقف وراء النزعة الطائفية، فإنه وضع منهجه التفكيكي كما يقترحه مشغلا للقراءة، والمراجعة والحفر، إذ يبدو هذا الاجراء المنهجي قريبا من معاينة الظواهر، عبر حفرها وتعرية مرجعياتها التاريخية والشعبوية والتي باتت ضاغطة ومهيمنة في توصيف الصراعات، وفي التعرّف على الجماعات الأكثر تمثلا لممارسة العنف الطائفي وتبرئته في آن معا، إذ يتلازم الصراع بالجماعة عبر تأويل النص، وعبر إحاطة المقدس، وعبر صناعة مجال ثقافي وسياسي وديني تتضخم فيه الظواهر، وتتعاظم فيه الخلافات وعُصابات الكراهية والتأثيم والتكفير، وهي توصيفات لها أسانيد ومرجعيات نصوصية وفقهية، ولها أحكام في فتاوى الفقه وفي تواتر الحديث والأخبار..
الطائفية المذهبية مصطلح ومفهوم مفصلي في الكتاب، وبقدر تحوّله وتغوله، فإن الجدل الذي يثيره ينطلق من مرجعيات عصابية في البيئة العربية/ الاسلامية، ومن منظومة قاموس الحاكميات التي جمعت(الناسوت واللاهوت) وفرضت سطوة المقدس بوصفه جزءا منها، ومن مركزيتها في السيطرة والرقابة والعنف، وفي توصيف الخصوم وتكفيرهم وزندقتهم وإخراجهم من الملة والأمة، حدّ أن ( الاختلاف المذهبي الذي تحوَّل في تاريخ الصراع على السلطة إلى نزعة طائفية سياسية، ثمَّ إلى هيمنة خطيرة لثقافة التكاره التي شكَّلت عقائد متصادمة داخل تلك الثقافة التي يفترض أنها «واحدة» وأصبح ذلك الاختلاف المذهبي الذي بدأ ثقافياً ثم تسلَّل إلى وعي الطبقة السياسية، ليتدحرج نحو هاوية قاتلة توشك على ابتلاع الجميع، وهو يتمظهر راهناً في هذه الصراعات المحلية التي بدأت تنحو منحى الحروب الأهلية المنتقِّلة في الساحة العربية)

الطائفية ومحنة الهوية الثقافية..
ينحني الفصل الأول من الكتاب على مقاربة اشكالية ل(ثالوث النخبة الطائفية) والتي تخص أصل الطائفة والهوية والثقافة، إذ يضعنا الباحث أمام تعقيدات هذه المقاربة، والإحالات الملتبسة لمفاهيمها، مثلما يضعنا أمام أطروحات ومرجعيات تتعلق بالأصل الاصطلاحي للطائفة، ولتمثلاتها على المستويين التاريخي والتوصيفي، وكذلك على المستويين النصوصي والوظائفي.
هذا التأطير المنهجي أعطى للمقاربة النقدية مجالا للتعرّف على الكثير من الأصول التاريخية لمفهوم الطائفية، ولحمولاته التي تواترات داخل منظومات السلطة والجماعة، وضمن سياق الصراعات التي ارتبطت بأزمة العقل والنقل، وطبيعة المشاريع والهيمنات، إذ تحولت تلك الصراعات الى نزعات للتغالب والتكاره والتأثيم، وظهرت على هامشها قوى أصولية متطرفة في فهمها وفي عنفها، وفي الترويج الدوغمائي لمفهوم الحاكمية، إذ تم إخضاع النص الى قراءة محددة، وإخضاع المقدس الى مرجعيات ضيقة، وهو ماتم توظيفه في إقصاء الآخر وتكفيره، حتى بات التاريخ الاسلامي محصورا في مساحة ضيقة تتجوهر حول(الصراع الطائفي) بين الفرق والجماعات والأحزاب حيث تكون(الطائفة هي التحزُّب داخل الجماعات الواسعة، ونشير إلى أن أصل الجذر الدلالي لمفردة الحزب هو الطائفة بالمعاجم العربية)

الطائفية بين الجماعة والدولة..
يحمل الفصل الثاني العديد من المحاور(القفزة المعقَّدة من الجماعة إلى الدولة، المحافظون الجدُد والطائفيون الجدُد، هلوسات النخبة، و»ديانة» الغزاة.. ابن تيمية وابن المطهر معاصرين، الدولةالعميقة بثياب الخلافة) والتي تضع المشكلة الطائفية في سياق تضخم الأزمة، وعبر خطورة ماتمثله من ظاهرة قابلة للتفجّر، وللتأثير على النسيج الاجتماعي، فالمشكلة الطائفية في هذا السياق ترتبط بالمشكلات الاجتماعية، والمشكلات السياسية والاقتصادية ومنظومات التعلّم و(اندماجها بمنظومات استقطاب اقليمية ومحلية( كما يرى الباحث) وهذا مايجعل الطائفية بوصفها(الهوية الضيقة للجماعة) في سياق توليدي للكثير من مظاهر التصارع والتنافر، لاسيما داخل مراكز المدن، ذلك( أن نزعة البداوة في عموم مناطق العراق كانت تطغى على روح الدين، العشيرة قبل الإسلام، فسؤال الولاء لدى الجماعة البدوية يتركَّز حول النسب الرحمي الصريح وليس حول النسب الثقافي المعطى، أي داخل العصبية الأضيق والأكثف، وليس الأوسع، ولذلك تتركز الظاهرة الطائفية في المدن والمراكز التي تضمُّ أضرحة الرموز الروحية لكلِّ طائفة وكذلك مراكزها الثقافية التقليدية من مساجد وحوزات) وهذا مايعني إنعكاسها على هوية المؤسسات وعملها، وعلى أطر وسياقات العلاقات العامة، وحتى على مستوى تمثلات الدرس التعليمي في المدارس وآلية القبول بمعلوماته ومصادره، وعلى تقبّله لأطروحات السلطة ذاتها، إذ تمثل السلطة هنا مرجعية طائفية وليست وطنية، وهو مابدا واضحا بعد أحداث 2003 .
صورة المثقف العراقي الليبرالي والقومي غير القارّة في الوجدان لم تجد لنفسها حضورا بعد الأحداث، وربما ضعفت بشكل كبير بعد ظهور ملامح ناتئة ل(المثقف الديني، والمثقف الطائفي) وللمثقف(الكهنوتي) الذي يفرض سلطته على المجالس، وعلى تدوير واستهلاك المعلومات والافكار التي تخصّ أحداثا تاريخية، أو تهويل مرجعيات فقهية تقوم على مهيمنات التحريم والتأثيم والتكفير والتلويح بالعنف والطرد والمحو. هذا المثقف بات هو التجسيد العلني لظواهر التسويق المعرفي والثقافي، ولتحديد أفكار التحول في المجتمع والجماعة، ولفرض فهم معين للتاريخ والبناء المؤسسي، وحتى على مستوى بناء الوحدات الثقافية والتعليمية والاعلامية في مؤسسات الدولة، حتى صار من الطبيعي أن تتحول الديمقراطية الى ممارسة عمومية، ولا قدرة لها على تخليص العقل والنظام من رهاب القوة الجماعاتية…

الطائفية ..التاريخ الغامض
والثنائيات القاتلة..
الفصل الثالث الذي حمل عنوان( الثنائيات القاتلة ..التاريخ الغامض لمحفل الكراهية) وجد في ثنائيات التقسيم الثقافي والتوصيفي مجالا للكشف عن خطورة شيوع مثل تلك الثنائيات بوصفها تعبيرا عن انقسام مجتمعي نفسي وطائفي، حمل معها الكثير من الصراع المدني، والكثير من الضحايا، والكثير من التزييف الذي رهن خطابه بأوهام التمظهرات التي شاعها الصراع البويهي السلجوقي، والصفوي العثماني في العراق وفي ايران وفي الدولة العثمانية، فمفردات( النواصب والروافض، والتبشير والتكفير، والوهابية والشيخية) تحولت الى يافطات والى مدارس ومرجعيات تؤدلج الصراع الاجتماعي وتُسيسه لصالح جماعات معينة، ولصالح السلطة ذاتها التي حاولت فرض نمط طائفي معين لهوية الدولة…
هذه الثنائيات القاتلة والمقتولة كرست عبر هيمنة(النخب الكهنوتية) على العقل الثقافي والسياسي الإسلاموي الأسس الهيكلية ل(محفل الكراهية) والذي تضخم، وتحول الى ظواهر ثقافية وفقهية مازالنا نعيش الى اليوم رعبها وعنفها وأنماط سسيولوجيتها الإكراهية والدامية، فضلا عن كونها كانت سببا في قتل ونفي الكثير من الشعراء والفقهاء ممن اختلفوا في الولاء لهذه الجماعة أو تلك مثل علي بن الجهم والكميت الاسدي وعبد الله بن عمار البرقي، ومروان بن أبي حفصة، دعبل الخزاعي وغيرهم..
يقترح الباحث تقديم مرجعيات تاريخية وأسانيد تعزز قراءته لنشوء الظاهرة الطائفية، وانتقالها من حيز الجماعة والفرقة والعقيدة الى حيز الدولة، وهنا مكن خطورتها، لأنها ستقوم بإخضاع الكثير من المؤسسات والنُظم الى أدلجة مغلقة، مثلما ستكون مصدرا للتبشير بأفكاره التكاره ورفض الآخرين، وهو مابدا واضحا في الاتجاه الوهابي الذي شرعنّ أحكام القتل والتعنيف، من منطلق الوعي الزائف ب(الفرقة الناجية) وبولاية الأمر للحاكم..

الدولة الطائفية والولاء الملتبس..
في الفصل الرابع(الولاء الملتبس) يحاول الباحث وضع مسألة الدولة العراقية الجديدة تحت مشرح منهجه التفكيكي، مُتقصّيا تعقيداتها وصراعاته الداخلية وطبيعة القوى الجديدة التي تمثلت خطابها، فضلا عن مقاربة الولاءات الغامضة والعميقة، والتي وجدت في المجال الطائفي تعبيرا عن احتقاناتها القديمة، فضلا عن استدعاء الكثير من اشكالات التاريخ وأوهامه، تلك التي (تقوم أساساً على نقض فكرة الدولة لصالح فكرة الولاية بمختلف تجلياتها الإمبراطورية والدينية، وعلى طمس الوطن في بحر الأمة بمختلف تجلياتها كذلك، وعلى تسييل مفهوم الشعب في ملل وطوائف وذمم وهويات ضيقة ومتضايقة من بعضها البعض)
مشكلة الدولة بدت هي الضحية الأكثر تراجيدية في سياق الفرض الطائفي للدولة ولصراعات الجماعات حولها، ورغم أن الدستور العراقي قد حدد توصيفا أقرب لمدنية الدولة، إلّا أن طبيعة الفاعلين الرئيسيين في مؤسسة الدولة ومرجعياتهم الطائفية والحزبية فرضت على الدولة نوعا من الهوية المُغلقة، مقابل ما أفرزته من جماعات تتبنى العنف خطابا طائفيا لفرض سيطراتها وتوجهاتها، تلك التي تركت الدولة واقعة تحت نوبات متتالية من الأزمات الامنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية..
الفصل السادس للكتاب يتعالق مع هذا الفصل في التعاطي مع تعقيدات المشهد، فالعنوان الذي حمل( الأضرحة والمفخَّخات ترسم جغرافيا الطوائف) يؤشر مدى الخطورة التي باتت عليها النزعة الطائفية، على مستوى الجماعات والجهاد والهويات، وعلى مستوى الطقوس والتغايرات الديموغرافية داخل المجتمع، والتي فرضت وجودها وكأنها نوع من(الهويات المُسورة)، فضلا عن ما أشاعته من العنف العُصابي الذي طال أضرحة الأئمة العسكريين في سامراء، ومرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، فضلا عن التجمعات السكانية والاسواق الشعبية والملاعب الرياضية والمقاهي والشارع الثقافي، وعلى وفق تبريرات طائفية تتجذر فيها نزعة الكراهية للآخر، وهذا ما جعل الباحث أكثر واقعية في قوله بأن(الديموغرافيا الطائفية انتصرت على الديمقراطية، أو بالأحرى حلت كبديل نوعي لها. انسحبت من فكرة التعايش السلمي، إلى العيش في قوقعة الأمن الذاتي)
وفي الفصل السادس سعى الباحث لاستعادة أثر إرث السلطة القديمة في صناعة الرعب الطائفي، وعنوان المبحث(التركة الملعونة: طوائف الدكتاتور) قاربت صورة الدكتاتور بعد اعتقاله، وتضخم الوهم الذي ظل يعيشه، ورغم ماكان يعانيه العراقيون من رعب طائفي وصراع مجتمعي دامي، إلّأ أن الأوهام التي ظلت مرتبطة بالدكتاتور كانت صاخبة في الأوساط الاجتماعية الشعبية، وأن محاكمته كشفت عن الكثير من المسكوت عنه، ومن تاريخ عميق للعنف السياسي والابادة التي عانت منها الجماعات الشيعية والكوردية..
حاول الباحث في الفصل السابع(اللعبة المستمرة أم نهاية العراق، من تشرشل – المس بيل، إلى بايدن- غيلب) الى الكشف عن الاشكالات المرجعية لتأسيس الدولة العراقية في مرحلتيها عام 1921، وفي 2003 والتي ارتبطت بوقائع احتلالية، وبنوع من الصراع مع المحتل، ف(فخلال أكثر من ثمانية عقود خلت ظلت «الدولة» ترث المشكلات الاجتماعية، وتنافر الكتل والجماعات المحلية، وتمضي إلى أطوارها بلا جهد واضح لمعالجتها، فبدلاً من أن يتركز دور النظم المدنية على معالجة تلك المشكلات وتنظيف البيئة الحيوية لنشوء فكرة «الوطن» من ركام الصراعات التقليدية خارج النظم، وتهيئة القاعدة الأهلية القادرة على التواصل الداخلي والتفاعل مع تلك النظم المستحدثة وقابليتها على التكيف معها. نجد أن الدولة في نماذجها المعاصرة في منطقتنا عموماً والعراق تحديداً تعيد إنتاج تلك المشكلات لتصبح نوعاً من الوقود الحيوي الذي تستمد منه حركيتها وبذلك تبدو الدولة انعكاساً صورياُ تقليدياً للأزمات الموروثة)
وهذا بطبيعة الحال وضعنا أمام أزمة وجود هذه الدولة وضعف نظامها وبناها المؤسسية، مقابل الصعود المشوه للأصوليات الطائفية التي اسهمت في تكريس ثقافات العزل الديموغرافي، وتعميق الدوغما الايديولوجية بين الجماعات، والابتعاد الحقيقي عن البحث عن مصير مشترك لها، أو حتى هوية جامعة، بل أنها عمدت الى صناعة المزيد من الاوهام الطائفية وتزييف، وتخريب العلاقة مابين الفرد والمجتمع والدولة، وكل هذا حدث ويحدث جرّاء تغوّل الظاهرة الطائفية وتوسيع مديات رعبها وإكراهاتها الثقافية والهوياتية في المجتمع الآخذ بالتشظي..